الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثالث: أن قوله: {أَطِيعُواْ الله} أضاف لفظ الطاعة إلى لفظ الله، فهذا يقتضي أن وجوب الطاعة علينا له إنما كان لكوننا عبيدا له ولكونه إلها، فثبت من هذا الوجه أن المنشأ لوجوب الطاعة هو العبودية والربوبية، وذلك يقتضي دوام وجوب الطاعة على جميع المكلفين إلى قيام القيامة وهذا أصل معتبر في الشرع. اهـ.قال الفخر:إنه قال: {أَطِيعُواْ الله} فأفرده في الذكر، ثم قال: {وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} وهذا تعليم من الله سبحانه لهذا الأدب، وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره، وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ذلك، بدليل انه قال: {وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} وهذا تعليم لهذا الأدب، ولذلك روي أن واحدا ذكر عند الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: من أطاع الله والرسول فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال عليه الصلاة والسلام: «بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله» أو لفظ هذا معناه، وتحقيق القول فيه أن الجمع بين الذكرين في اللفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة، وهو سبحانه متعال عن ذلك. اهـ.فصل في فروع تتعلق بالإجماع:قال الفخر:قد دللنا على أن قوله: {وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} يدل على أن الإجماع حجة فنقول: كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالإجماع، ونحن نذكر بعضها:الفرع الأول: مذهبنا أن الإجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه نقول: الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر، والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء، لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه، وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث، فدل على ما ذكرناه، فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الإجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء.وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر؛ لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر.الفرع الثاني: اختلفوا في أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف هل هو حجة؟ والأصح أنه حجة، والدليل عليه هذه الآية، وذلك لأنا بينا أن قوله: {وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة، وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف وما لم يكن كذلك، فوجب أن يكون الكل حجة.الفرع الثالث: اختلفوا في أن انقراض أهل العصر هل هو شرط؟ والأصح أنه ليس بشرط، والدليل عليه هذه الآية، وذلك لأنها تدل على وجوب طاعة المجمعين، وذلك يدخل فيه ما إذا انقرض العصر وما إذا لم ينقرض.الفرع الرابع: دلت الآية على أن العبرة باجماع المؤمنين لأنه تعالى قال في أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا} ثم قال: {وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} فدل هذا على أن العبرة باجماع المؤمنين، فأما سائر الفرق الذين يشك في إيمانهم فلا عبرة بهم. اهـ.فصل في فروع تتعلق بالقياس:قال الفخر:ذكرنا أن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} يدل على صحة العمل بالقياس، فنقول: كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل، فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس، ونحن نذكر بعضها:الفرع الأول: قد ذكرنا أن قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله} معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها، ولابد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها، إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة، فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي، وحينئذ يتعذر الرد، فعلمنا أنه لابد وأن يكون المراد: فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة.ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر، أما الخبر فإنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام: «أرأيت لو تمضمضت» يعني المضمضة مقدمة الأكل، كما أن القبلة مقدمة الجماع، فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم، فكذا القبلة.ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزى» فقالت نعم: قال عليه الصلاة والسلام: «فدين الله أحق بالقضاء» وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك، فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله: {فَرُدُّوهُ} أمر برد الشيء إلى شبيهه، وإذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص، وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد، ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله: {فَرُدُّوهُ} هو أنه ردوه إلى شبيهه علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة، وهذا بحث فيه طول، ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات، فأما الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب.الفرع الثاني: دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ} مشعر بهذا الاشتراط.الفرع الثالث: دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والاجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان، وبطل به قول من قال: لا يجوز استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما؛ لأن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء} عام في كل واقعة لا نص فيها.الفرع الرابع: دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلابد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص، ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله.الفرع الخامس: دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن، والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} وفي قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} وكذلك في خبر معاذ.الفرع السادس: دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بايماء في كتاب الله والآخر تأيد بايماء خبر من أخبار رسول الله، فإن الأول مقدم على الثاني، يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس، فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين، ولعل الإنسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية. اهـ.قال الفخر:قوله: {وَأُوْلِى الأمر} معناه ذوو الأمر وأولو جمع، وواحده ذو على غير القياس، كالنساء والابل والخيل، كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ. اهـ.
.قال السمرقندي: وقال الخليل بن أحمد البصري: الناس أربعة: رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاجتنبوه.ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلِّموه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا نائم فأيقظوه.ورجل يدري وهو يدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه. اهـ..قال الفخر: قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} قال الزجاج: اختلفتم وقال كل فريق: القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب، والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله، أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده. اهـ..قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {فردوه إلى الله والرسول} في كيفيّة هذا الرد قولان:أحدهما: أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور.قال القاضي أبو يعلى: وهذا الرّد يكون من وجهين.أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه.والثاني: الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر.والقول الثاني: أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول: من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجاج. اهـ..قال الفخر: هذا الوعيد يحتمل أن يكون عائدا إلى قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} وإلى قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول}، والله أعلم. اهـ..قال ابن عطية: وفي قوله: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} بعض وعيد، لأن فيه جزاء المسيء العاتي، وخاطبهم بـ {إن كنتم تؤمنون} وهم قد كانوا آمنوا، على جهة التقرير، ليتأكد الإلزام. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي تجادلتم واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويُذهبها.والنزع الجذب.والمنازعة مجاذبة الحجج؛ ومنه الحديث: «وأنا أقول مالِي ينازعني القرآن» وقال الأعشى:الخضل النبات الناعم والخضِيلة الروضة {فِي شَيْءٍ} أي من أمر دينكم.{فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} أي رُدّوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقَتادة، وهو الصحيح.ومن لم يَرَ هذا اختل إيمانه؛ لقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر}.وقيل: المعنى قولوا الَّله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الردّ.وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التّمادِي في الباطل.والقول الأوّل أصح؛ لقول عليّ رضي الله عنه: ما عندنا إلاَّ ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فَهْمٌ أُعطِيَه رجل مسلم.ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خُصّ به هذه الأُمة والاستنباطُ الذي أعطِيهَا، ولكن تُضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب.قال أبو العالية: وذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.نعم، ما كان مِمّا استأثر الله بعلمه ولم يُطلِع عليه أحدًا من خلقه فذلك الذي يُقال فيه: الله أعلم.وقد استنبط عليّ رضي الله عنه مدّة أقلّ الْحَمْل وهو ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وقولِه تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرًا بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير.وفي قوله تعالى: {عَلَى الرسول} دليل على أن سُنّته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويُمتثل ما فيها.قال صلى الله عليه وسلم: «ما نَهَيْتُكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم». أخرجه مسلم.ورَوى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أَلْفِينَّ أحدَكم متّكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نَهَيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه». وعن العِرْبَاض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: «أيحسب أحدكم متكئًا على أريكته قد يَظُنّ أن الله لم يحرّم شيئًا إلاَّ ما في هذا القرآن ألاَ وإني والله قد أمَرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر» وأخرجه الترمذيّ من حديث المِقْدام بن مَعْدِي كَرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب.والقاطع قولُه تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] الآية. اهـ.
|